حول مفهوم حقوق الحيوان
المشاعر… الرخاء… التفرقة… المسؤولية الأخلاقية، الصناعات الحيوانية، الاستهلاك، النشاط الاجتماعي – هذه المفاهيم والمصطلحات جميعا مرتبطة بحقوق الحيوان. قد تبدو القائمة طويلة ومعقدة، ولكن المبادئ التي تكمن وراء حقوق الحيوان تتناغم بسهولة مع شعورنا الفطري، بمن فينا من لم يسمع قط في حقوق الحيوان أو من يعارض النظام الغذائي النباتي، ولذلك يسهل عرض الموضوع ضمن مقدمة قصيرة.
مَن صاحب حق ؟
إن الحقوق مرتبطة بالأخلاق والأخلاق تتضمن أفكارا تبدو لمعظمنا بديهية، ومنها أن البشر يستحقون معاملة أخلاقية، أما الجوامد فلا تستحقها. ولكن ما كيفية معاملة المخلوقات الحية بأجناسها ؟ ما هي الصفة التي تُكسب صاحبها المركز الأخلاقي؟ من السهل الموافقة على أن القادر على الإحساس يستحق أن ينظر إليه بعين الاعتبار، فالقدرة على الإحساس تتكون من مجموعة صفات تشهد بوجود النفس، منها القدرة على الإحساس بالألم أو بالمتعة أو بالإحباط والملل والبهجة والرعب وغيرها من المشاعر المرتبطة بالمعاناة والمتعة، كما والقدرة على الإرادة – التوق إلى الحصول على تفاحة أو تمني الصعود إلى قمة التلة ورغبتي في تجهيز مكان مريح للقبوع فيه وتمني أن يلعب معي صديقي وما إلى ذلك، فإن كان المخلوق حائزا على مثل هذه القدرات، أو بالأحرى إن كانت له نفس، فإن لما يعيشه من تجارب أهمية أخلاقية.
نعلم أن العصفور يريد الخروج من القفص وأنه يسوؤه المكوث فيما وراء القضبان، فنعرف أن في الأمر بعض السوء، ولكن لماذا ؟ ألأنه لا يروق لنا مشاهدة عصفور محبوس في قفص، أو لأن أحدهم طلب الإفراج عنها ؟ كلا. إن السوء كامن فيما يشعر به العصفور. إن شعوره سيء وهو داخل القفص، ولذا نقول إن العصفور له حق في الحرية. ولا وسيلة لنا إلى إثبات وجود مثل هذا الحق أو غيره من الحقوق. إنه قرار أخلاقي يستند إلى أبسط شعور أخلاقي وفطري يتمثل في أنه إذا كان مخلوق ما يشعر فمن الواجب أخذ شعوره بعين الاعتبار!
أما مسألة من هو القادر على الشعور فإنها ليست مسألة فلسفية بل هي مسألة بيولوجية، وهي مسألة عويصة لتعذر الشعور بما يشعره الغير، إذ يمكن فقط التعرف على علامات تشير إلى أنه في مأزق أو يريد الحصول على شيء ما. وأهم نتيجة خرجت بها البحوث البيولوجية التي تم إجراؤها في هذا المجال أن الفقاريات بجميع أجناسها، من الثدييات والطيور والبرمائيات والزواحف والأسماك وربما غيرها من الأحياء، قادرة على الشعور بدرجات متفاوتة، يتميز شعور بعضها بالبساطة وشعور البعض الآخر بالتعقيد, ولكنها جميعا قادرة على الإحساس بالمشاعر، وعليه فلها حقوق.
التفرفة
من تعتبر معاناته أهم ؟ إذا كنت أنا ذكية فهل الألم الذي أشعر به أهم من ألم جاري الغبي ؟ وإذا كنت رجلا، فهل احتياجاتي أهم من احتياجات زوجتي ؟ حين يكون النقاش نظريا كأن يكون النظر موجها إلى حضارات بعيدة، يسهل الإشارة إلى التمييز السلبي والإقرار بأنه غير عادل، أما في الواقع المعاش فمن الصعب الإقرار بالتفرقة التي تكون أنت ضالعا فيها والتمعن فيما تسوق أنت من حجج ومبررات وصولا إلى الاعتراف بأنها لا يمكن أن تبرر قراراتك.
لقد اعتاد معظمنا على تعليق أهمية كبرى على احتياجاتنا والتقليل من أهمية احتياجات الحيوان، ولنا في ذلك العديد من المبررات, ولكن حين تقاسي الدجاجة آلاما مبرحة بعد إخراجها بالقوة من قفصها وكسر أحد جناحيها، هل تعتبر آلامها أقل أهمية من آلام البشر ؟ صحيح أنها لا تتكلم ولا هي قادرة على خوض مفاوضات معنا ولا يمكنها حل التمارين الحسابية، كما أنها تجهل الكثير الكثير مما نعلمه نحن، ولكن ذلك لا يمت بصلة للاعتبارات الأخلاقية، تماما كما أن لون بشرتي وما أملكه من مال وما أحوز عليه من شهادات جامعية لا يكسب آلامي أي أهمية أخلاقية متميزة، لأن الألم هو الألم والإحباط هو الإحباط والرغبة هي الرغبة، والعبرة في قوة الإحساس لا في هوية صاحبه.
أي حقوق هي ؟
إن كلمة “حقوق” مربكة لتعودنا على استخدامها إشارة إلى حق منصوص عليه في القانون، وبهذا المعنى يكاد يكون الحيوان عديم الحقوق، حيث لا يمانع القاون في تربيته في ظروف من الازدحام الشديد ثم ذبحه، ولكن “حقوق الحيوان” مفهوم من المفاهيم الأخلاقية، ولذلك حري بنا الابتعاد عن الواقع المعاش لنتساءل بصدق وجرأة عما هو عادل وعما هو جدير أن يكون قائما وما الذي يجب عمله، ثم اتباع هذه الفكرة بغض النظر عن الأعراف والقوانين.
أين يسير بنا التفكير الأخلاقي ؟ إنه يسير بنا إلى احترام الاحتياجات والرغبات والمشاعر دون محاباة، وبعبارة أخرى يسير بنا نحو تمكين الغير قدر الإمكان من سد احتياجاته وتحقيق أمانيه والامتناع عن الإساءة له وتكبيده العناء. إنه الحق في راحة العيش وهو يعني كل مخلوق ذي نفس حية. ومع أن الاحتياجات والرغبات والحساسيات الخاصة بالمخلوقات متباينة جدا، إلا أن من البديهي تعذر تحقيق أبسط متطلبات راحة العيش حين يكون الحيوان محبوسا في قفص، لذلك فأن الكثير من المنشآت والمؤسسات الزراعية والعلمية والترفيهية مرفوضة دون شك.
إذًًا فهل الحل الأخلاقي كامن في جعل الحيوانات جميعا طليقة حرة، كما هو مألوف ضمن مناقشة حقوق الإنسان ؟ كلا. إن مفهوم “التحرير” ينطبق على الحيوانات البرية، ولكنه عديم القيمة حين يتعلق الأمر بمعظم الحيوانات الداجنة. ففي أي وقت تعيش مليارات من الديكة في أنحاء العالم، فإلى أين تذهب لو تم إطلاقها، علما بأن أجسام جميعها مشوهة بسبب الانتقاء الاصطناعي المتبعة في تربيتها والتي تستهدف تسريع عملية التسمين. وحتى لو أطلقنا بعضها فهي بالكاد تبقى، ولذلك فإن حقوق الحيوان تعني أساسا الوقاية والامتناع – الامتناع عن “إنتاج” الحيوانات صناعيا ومنع عيش يمثل الألم والإحباط جزء لا يتجزأ منه.
أين نقطة التعادل ؟
قد يكون ثمن تمكين الغير من راحة العيش باهظا، لذلك من المهم حماية أبسط الاحتياجات من أكبر الأضرار. ما هو المطلوب منا تضحيته من أجل تمكين الحيوان من راحة العيش ؟ حين نفكر في الأمر بصدق يتبين لنا أن ما يستخرجه المجتمع البشري من الحيوان، كالغذاء والرداء مثلا، يمكن الاستعاضة عنه دون صعوبة بالغة بمنتجات نباتية أو صناعية، في حين يدفع الحيوان مقابل ما يتم استخراجه من جسمه بعمر حافل بالخوف والألم والإحباط ينتظره في نهايتها الإعدام. إذًا نحن أمام عمر كله عناء مقابل وجبة من الطعام يمكن الاستعاضة عنها بأخرى مختلفة! إن مثل هذا الحساب لا يمكن تبريره أخلاقيا، بل ويبقى بدون مبرر حتى لو كانت ظروف عيش الحيوانات في المزرعة أقل سوءا بعض الشيء، أو لو سُمح للحيوان بالعيش لمدة أطول بقليل، فحبس 50 ألف ديك بزحمة مقدارها 25 ديكا للمتر المربع هو عبث بالحيوان دون أدنى شك. ولكن حتى لو سمح للديكة بالمكوث خارج أقفاصها لبعض الوقت فهذا لا يمثل حجة في إعدامها.
بل ثمة معضلات أخلاقية أشد تعقيدا، منها كيفية التصرف بالثعلب المصاب بداء الكلب أو بالجرذة المتواجدة في مخزن للحبوب، أو جواز استخدام بيضة وضعتها دجاجة طليقة في ساحة بيتي بين الحين والآخر. ومع كون حلول تلك المعضلات ليست بالهينة دوما، إلا أنها بسيطة أخلاقيا، بمعنى أن للحيوان حقا في راحة العيش وفق احتياجاته ومشاعره، وليس وفق أهوائنا وراحتنا نحن، علما بأنه من الجائز التفكير في حلول وسط تأتي على حساب الحيوان عند تعرض احتياجاتنا الأساسية للخطر وانعدام بديل آخر، ولكن سعينا وراء ما ألفناه من المتعة والراحة والتقاليد لا يبرر التعرض للحيوان.
التبريرات والحجج
لعل أهم نقطة تكمن في أن “حقوق الحيوان” ليست فكرة ثورية، فجميع ما ذكرناه من افتراضات ومعتقدات يتوافق وشعور أي شخص عادي بأن حقوق الحيوان نتيجة منطقية للقيم الأخلاقية المألوفة والتفكير السليم، ورغم ذلك يمثل النباتيون أقلية في المجتمع بينما الذين يستبعدون من نظامهم الغذائي المنتجات الحيوانية جميعا لا يشكلون إلا النزر اليسير، فما الذي حدث في الطريق الموصلة من الافتراضات إلى النتائج المطلوبة ؟
ثمة من قائل بأن من المألوف والسهل الاستخفاف بما يحتاجه ويريده ويشعر به الحيوان. وحين يكون أمر ما مألوفا وسهلا، تكون العلل والتبريرات جاهزة دائما ومنها ما يعود إلى الأخلاق والدين والبيولوجيا والنظام الغذائي وما شاكل، فكيف تكون غير ذلك إذا كان الجميع يتناول اللحم والحليب ويرتدي الصوف، و”يستحيل أن يكون الجميع مخطئا” و”كيف لي وحدي التأثير على الناس ؟” وبالأخص “هكذا هي الحياة!”.
ولكن في الواقع لا حاجة للتبرير عادة، فحبس الحيوانات في المزارع والتفقيس والنقل والذبح والتجارب العلمية والحبس في المحاجر البلدية وصيد الأسماك – كل ذلك يتم بعيدا عن أنظارنا، بحيث لا يعلم بما يجري إلا العاملون في تلك الصناعات، أما سائر الناس فينعمون بلذة الجهل، فلا أحد تقريبا يشعر بضرورة إمعان النظر في رؤيته الأخلاقية أمام مسؤوليته عن ايذاء الحيوان.
ما العمل إذن ؟
إن حقوق الحيوان هي المعاملة التي يستحقها الحيوان والتي تقع علينا مسؤولية تحقيقها له، علما بأننا لسنا بصدد المناقشة النظرية للاخلاق في عالم طوباوي، فأبناء البشر يسيئون لأعداد هائلة من الحيوانات مستخدمين أقسى أنواع العنف ولأغراض لها بدائل، لذلك تفرض علينا الأخلاق سرعة التحول إلى السلوك السليم لشدة المأساة التي يتعرض لها الحيوان وضلوعنا جميعا في ذاك العنف.
من أين نبدأ إذا ؟ إن نقطة البدء في صناعتي الأغذية الألبسة من لحوم وبيض وألبان وجلود وصوف، فإيذاء الحيوان في هاتين الصناعتين يحجّم سائر أنواع الأذى من حيث النطاق الواسع وعادة من حيث الشدة أيضا. والحل الفعال لهذه الأوضاع يكمن في التوقف عن استهلاك المنتجات الحيوانية. ولكن التغيير يمثل لمعظمنا صعوبة ويتطلب النظر المتمعن في الحقائق والتعرف على البدائل الصناعية، ويمكن القول إن ما يتوجب علينا توظيفه من جهد في هذا المجال لا يتعدى بشكل من الأشكال ما هو معقول في ظل مسؤوليتنا المباشرة كمستهلكين والنفوذ الكبير التي يتمتع المستهلك الفرد، إذ يتناول الإنسان العادي الآلاف من الحيوان طوال عمره، بينما النباتي أو من لا يتناول المنتجات الحيوانية إطلاقا ينقذ آلاف الحيوانات.
وفي الختام يجدر بنا تذكر أن النظام النباتي أو الامتناع كليا عن استهلاك المنتجات الحيوانية لأسباب أخلاقية لا يمثل اختيارا شخصيا أو “أسلوب حياة” وحسب، وإنما يمثل مسؤولية اجتماعية نحو المخلوقات الضعيفة تلزمنا بالعمل من أجل الحيوان وإطلاع غيرنا على الحقائق التي تنامت إلى علمنا وإطلاعه على ما توصلنا إليه من نتائج من خلال حسن التبصر وعمق الفهم.